قراءة لقصيدة المنال من المحال الجزء الأول
أيها الشاعر الجميل
علي الصيادي :
قرأت نصك كما تُقرأ خرائط الروح، لا بعين المتلقي العابر، بل ببصيرة المتأمل المبحر في تفاصيل الحرف، والملتقط لهمسات المعنى من خلف ضجيج القوافي. وجدتني في كل بيت أرتحل من حالٍ إلى حال، كأنك لا تكتب شعراً، بل تمارس طقسًا من طقوس الكشف والتطهر.
تبدأ بنبرة الصريع، لا الفاتك، وتلك أولى مفاتيحك الشعرية التي أعلنت بها أنك لست طامعًا بالغواية، بل غريقٌ فيها، وأنك تكتب من قاع الشعور لا من عتبات الفكرة. قلت:
"صيّادي صريع الغيد عذبات الخدود"
فجعلت الغواية قيدًا، والخدود مساحة للأنين، فـ"أشخبط بالخدود" عبارة تستوقفنا كثيرًا، تحمل انفعالًا لا يُستساغ على مستوى الحرف فقط، بل يُشعر، ويُتخيّل، وكأنك تحفر على الحرير بأظافر حارقة.
ثم تنتقل بنا إلى المفارقة الكبرى:
"هارب من الرمضاء إلى النيران أبحث عن برود"
وهنا بلغت ذروة التيه، ومن فرط التناقض اتّسع المعنى، فالذي يهرب من حرارةٍ إلى أُخرى أشد، لا يبحث عن خلاص، بل عن شعورٍ جديد يُقنعه بأنه لا يزال حيًا، وإن كان ذلك الإحساس جلدًا للإحساس ذاته كما تقول:
"أجلد إحاسيسي عسى تبدع قوافي حالمه"
وهذا العمق النفسي جعلني أراك تحاول افتعال الشعر لا لفراغ في قريحتك، بل لأن القوافي تأبى أن تتعاطف معك، وكل شيء فيك يريد الكتابة إلا الشعر!
ثم تفضح هذه القوافي ذاتها:
"حتى قوافي الشعر ما جادت وبالغنوة تجود"
فأي خذلان هذا؟ تشتكي من جفاف أدواتك، من نضوب القافية، كأنك تتعامل مع الشعر ككائن جامد، لا كصوت داخلي. وهنا تفرّ الكلمات إلى "الألحان المتناغمة"، إلى ما هو سماعيّ وموسيقي، فتجد في العزف ما لا تجده في الحرف.
ولمّا وصفتَ حال الأنس، في
"تطرب شغاف الروح بالأسجاع في طبلة وعود"
كنت قد دخلت بنا في جدلية الحزن والفرح، الظلمة والأنس، وكأن القصيدة لا تعترف بثنائية الشعور، بل تذيبها في نغمة واحدة.
وإذا بك تواصل فلسفتك في هذا البيت:
"توصف أسى وأوجاع وتستشعر وجع ما له حدود
شعاع يتوهّج لديجور القلوب الظالمه"
فأنت تصف الوجع، وتستشعره، وتترك له مكانًا في الشعاع، حتى لقلوب الظالمين، كأنك تقول: إن الشعر، حين يبلغ حقيقته، يُنير حتى ما لا يستحق النور.
ثم تفتح الباب للطبيعة تبكي معك:
"ناحت حمام الأيك وساح الدمع بأعيان الورود
ورونق الإشراق توارى خلف ديمة غائمه"
هنا تتجسد الطبيعة شعوريًا لا حسّيًا. الحمام ناح لأنك نحتَ، والورد دمعت لأنه مثلك خُذل، والغيمات أخفت الإشراق لأن فيك غيمة لا تزول.
وحين تقول:
"ينعق غراب البين يردد ما تقول الهائمه"
كنت قد بلغت مستوى رمزيًّا عاليًا، فالغراب، صدى لفكرك التائه، و"الهائمة" أنت، أو القافية، أو القصيدة التي لم تستقر فيك بعد.
ثم تفاجئني بنور يشرق من الطيف،
"فمن فضاء الطيف يشرق نور من سعد السعود"
ليتجلّى الأمل ولو وهمًا، فالشاعر الحقيقي لا يترك قارئه في ظلمةٍ كاملة، لا بد من شعاع، ولو من خيال.
التعليقات
آلتي تعزف على أوتار الابداع وتكشف الغموض والامتاع
سلمت الانامل الذهبية ..
أضف تعليق